بعيداً عن التسييس، ماهي حقيقة "جهاد النكاح" وهل هناك جذوراً تاريخية وعقائدية تربط الجنس بـالجهاد

انتشرت موضة "جهاد النكاح" ثم اختفت بسرعة ككثير من "الصرعات" التي تثير البلبلة دون أن يُعرف أصلها إلا من خلال الشائعات والأقاويل، غير أننا إذا بحثنا بطريقة بعيدة عن التسييس الراهن، فسنجد أن ثمة جذوراً تاريخية وعقائدية تربط الجنس بـالجهاد، وهي تفسّر جانباً من الحضور الإعلامي الهائل للمصطلح، كما تفسر سبب تجييره من قبل بعض الأطراف المتصارعة لإثبات شرعيتها.
ليس هنالك سبب لانطلاق ظاهرة جهاد النكاح من تونس تحديداً، مما يرجح أن يكون الأمر برمّته مجرّد شائعة، حسب تقرير بثّته قناة "العربية" في نوفمبر 2013. لكن هذا لا ينفي وجوده بشكل أو بآخر في الوسط الجهادي. بعيداً عن المصطلحات، فإن الإغراء الجنسي المرتبط بالجهاد ينقسم قسمين: دنيوي وغيبي.

مجاهدات وسبايا

الموقف الشهير الذي قامت به هند بنت عتبة قبيل معركة "أحد"، ليس سوى مرآة لما كانت تقوم به النساء من طبقة الأشراف قبل الإسلام، وهو يعكس مدى قدرتهن وسلطتهن على إثارة المعارك أو إحلال السلام، فقد وقفت هند أمام آلاف الجنود المتأهبين لصراع المسلمين وخاطبتهم بهذه الأبيات: "نحن بنات طارق، نمشي على النمارق/ والدر في المخانق، والمسك في المناطق/ إن تقبلوا نعانق، ونفرش النمارق/ أو تدبروا نفارق، فراق غير وامق."

لا نستطيع فهم هذه الصورة الملأى بالإغراء الجنسي والتحدّي، والمُفصح عنها من قبل سيدة من سادات العرب إلا إذا وضعناها ضمن السياق الطبيعي لوظيفة المرأة في الحروب قبل الإسلام، والتي كانت مقتصرة على شحذ همم الرجال ودفعهم إلى القتال من خلال وعدهم بلقاء حميمي إذا انتصروا على العدو، ففي معركة "ذي قار" المصيرية ضد الفرس أنشدت نساء شيبان وبكر بن وائل هذا البيت مخاطبات الجنود العرب: "إن يظفروا يحرزوا فينا الغزلْ/ إيْها فداءً لكم بني عجلْ".
هذه الوظيفة يقابلها إغراء جنسي آخر، وهو ما كان يُعرف بـالسبايا، فنساء المغلوبين مصيرهن أن يُقسَمن على الجنود المنتصرين ليفعلوا بهن ما يشاؤون. هكذا يأخذ الجنس مفهوماً مزدوجاً بالنسبة إلى المحارب: نساء قبيلته اللواتي ينتظرنه من جهة ونساء المغلوبين من جهة أخرى. مع مجيء الإسلام أضيف إغراء ثالث، هو الإغراء الغيبي المتمثّل بالحور العين. ولعل النتيجة الإيجابية التي كان يُحدثها الإغراء الجنسي قبل الإسلام دفعت الدين الجديد إلى تضخيم الأمر والمبالغة فيه، كما أن غيبيته تمنح المجاهدين دافعاً أقوى وخيالاً أكثر خصوبة.

لا يخفى على أي مطلع مقدار الأحاديث والآيات التي تربط الشهادة بالحور العين دون سائر ملذات الجنة لتشجيع المؤمنين على الموت في سبيل الله، فقد ورد في سنن الترمذي أن الشهيد "يُزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين"، ويرى زوجاته في مقعده من الجنة فور استشهاده.
أما مفهوم "السبايا"، فإنه استمر خلال الحكم الإسلامي جزءاً أصيلاً من عقيدة الجهاد، وكان يمثّل أحد الإغراءات الدنيوية، "والْمُحْصَنات من النّساء إِلا ما مَلَكَت أَيْمانكم" (سورة النساء، الآية 24). فقد أباحت هذه الآية للمنتصرين في غزوة "حنين" معاشرة الأسيرات بلا تحوير يُذكر عما كان عليه الأمر قبل الإسلام، ثم تتالت الآيات التي تتحدث عن "ملك اليمين" أو السراري "فإِن خِفتُم ألا تَعدِلوا فَواحِدة أو ما مَلَكَت أيمَانُكم ذلك أدنى ألا تَعُولُوا" (سورة النساء الآية 3).
لكن ماذا عن ممارسة الجنس خلال المعارك؟ وكيف تصرَّف المجاهدون في صدر الإسلام حيال هذا الأمر ولا سيّما إذا كانت المعركة ستستمر شهوراً من الحصار؟
خلال إحدى الغزوات، أباح النبي محمد زواج المتعة للمجاهدين لبعدهم عن زوجاتهم، ومع أن عموم علماء السُنّة اتفقوا على أن النبي حرم هذا الزواج خلال خطبة الوداع، لا نجد اتفاقاً على تحريمه تحت ظروف الحرب حتى بين السُنّة، فقد ذهب ابن عباس إلى أن تحريمه كان لغياب الضرورة، أي الغزوة. ولعل إشكالية هذا الزواج الذي يُعد من أهم ما يفرِّق بين الشيعة والسُنّة تكمن في تتالي إباحته وتحريمه بسبب الحرب، ما يجعله خاضعاً للتجاوزات والأحكام المؤقّتة. قال ابن حجر :"إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها. فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي، فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق".

لا جهاد بلا جنس

ترتبط الحروب عامةً بوضع خاص تجاه الجنس، لا سيّما في ما يتعلق بالاغتصاب. أما الجهاد والجنس فإنهما مُركبان لا ينفصلان من الذاكرة الجماعية الإسلامية والعربية، سواء كانت الخاتمة بالنصر أو الشهادة، وهما الخياران الوحيدان اللذان يرسمهما المجاهدون.
لكن ما السبب الذي يدفع بالمُجاهدات ليضحين بأنفسهن مع أنه لم يرد أي وعدٍ لهن بالثواب في حال الشهادة؟ أوجد الدعاة الجدد مخرجاً من هذا المأزق، وهو أن ثواب الشهيدة يعادل ثواب الشهيد باستثناء الحور العين، فالشهيدة لا ترغب في الجنة إلّا بزوجها.
ومع أن التساؤل يبقى مفتوحاً حول ثواب الشهيدة غير المتزوجة، فإن الدافع الدنيوي الذي كانت تتمتع به هند بنت عتبة غير موجود أيضاً، إذ يندر أن نجد للمرأة دوراً إغرائياً أو غير إغرائي في غزوات المسلمين، فهي في أحسن الأحوال تداوي الجرحى أو تضطلع بدور زوجة لأحد المقاتلين، وهو ما شهدته الساحة السورية أخيراً. فمع اشتداد الحرب وسقوط عدد كبير من مقاتلي الكتائب الإسلامية المتزوجين انتشر تزويج الأرامل وتالياً تعدد الزوجات. أما أسباب هجرة النساء بهدف الجهاد فتبقى فردية وغامضة ولا تقتصر على الجنس. ومنه ما نُشر عن ذهاب فتاتين نمساويتين للجهاد في سوريا، إذ ما من سبب يدفع فتاة توفرت لها كل أسباب العيش وهي ما زالت في سن المراهقة، لتقطع هذه المسافات وترمي بنفسها في الحرب بغية الزواج من رجل مسلم حتى تكون "مقاتلة مقدسة" بهدف الموت.


ولأنه ما من ثواب واضح حتى في العالم الآخر فإن هناك سبباً آخر فسّره البعض بالبحث عن المغامرة والهروب من الحياة الرتيبة والباردة في أوروبا، لكن ربطه في العالم العربي على الفور بالغايات الجنسية أو ما يُسمى جهاد النكاح يكشف عن مرجعية جنسية يتميز بها الجهاد في المنطقة، وهذا دفع وسائل الإعلام المسيّسة إلى تضخيم الأمر واستغلاله وتعليبه بصيغة واحدة غير واضحة يمر القارئ بها مرور الكرام بلا دراسة أسباب انتشارها. فجهاد النكاح ليس ظاهرة، كما أن الجنس ليس بعيداً عن الجهاد بل إنه من أهم غاياته.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

ADVERTISEMENT

ADVERTISEMENT

نموذج الاتصال