هل يمكن للحب أن يزهر في أرض مزقتها الحرب؟




في حلب، حيث كانت رائحة البارود تمتزج بغبار الأزقة القديمة، كان زين يعيش على بقايا ذكريات. كان يعمل مسعفاً متطوعاً، يداه اللتان كانتا يوماً تعزفان ألحان الأمل على العود، أصبحتا الآن تضمدان جراح من لا يعرفهم. كل يوم كان فصلاً من فصول الموت، وكل ليلة كانت صراعاً مع أشباح النهار.
ADVERTISEMENT

في أحد تلك الأيام الرمادية، وصلته نداء استغاثة من حي منسي. تحت أنقاض منزل انهار نصفه، وجدها. كانت نورا، معلمة الرسم التي حوّلت قبو مدرستها إلى ملجأ للأطفال، تعلمهم كيف يرسمون شمساً بألوان لا وجود لها في واقعهم. كانت مصابة، ولكن في عينيها بريق عنيد لم تستطع قذيفة أن تطفئه.

بينما كان زين ينظف جرحها، سألته بصوت خافت: "هل ما زلت ترى الألوان؟" فاجأه السؤال. نظر إلى يديه الملطختين بالغبار والدم، ثم إلى وجهها الذي رغم كل شيء، كان ينبض بحياة غريبة. أجابها بصدق لم يعهده في نفسه منذ زمن: "أحاول أن أتذكرها."

 

ADVERTISEMENT

منذ ذلك اليوم، أصبحت نورا لونه المفقود. كان يزورها في الملجأ، حاملاً معه ليس فقط الضمادات والأدوية، بل قصصاً عن عالم ما قبل الحرب. وهي بدورها، كانت تهديه رسومات أطفالها، كل لوحة صغيرة كانت نافذة نحو براءة مسروقة.

في إحدى الليالي الهادئة بشكل مخيف، جلسا معاً على سطح مبنى شبه مدمر، تحت سماء خالية من النجوم بسبب الدخان. أخرج زين عوده القديم الذي أنقذه من بيته المدمر، وبدأ يعزف لحناً حزيناً ولكن مليئاً بالشوق. نظرت إليه نورا، ودمعة وحيدة شقت طريقها على خدها المغبر.

قالت بهدوء: "لحنك يشبه زهرة ياسمين، تنبت من بين الركام."

في تلك اللحظة، لم تكن هناك حرب، لم يكن هناك دمار. كان هناك فقط رجل وامرأة، يجدان في بعضهما وطناً آمناً. لم يكن حبهما صاخباً أو وردياً، بل كان كشمعة عنيدة تقاوم ريحاً عاتية، نورها يرتجف ولكنه لا ينطفئ. كان حباً وُلد من رحم المعاناة، وسقاه الصمود.

لم تكن حلب تنتظر وعوداً بغدٍ أفضل، لكن في قلب زين ونورا، أزهر الياسمين في زمن الرماد، ليجيب على السؤال الأبدي: نعم، يمكن للحب أن يزهر، ليس فقط رغم الحرب، بل أحياناً... بسببها. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

ADVERTISEMENT

ADVERTISEMENT

نموذج الاتصال