لم تعد أخبار اختراق المواقع العادية على أيدي القراصنة الإلكترونيين أو «الهاكرز» تلفت الانتباه مثل السابق. ابحث في «غوغل» عن كلمة (Hacked) وستجد دائمًا أخبارًا طازجة تنتمي لهذه الفئة، مثل خبر اختراق موقع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية في السعودية، في يناير 2017.
قد يرجع ذلك إلى تطور القرصنة بصورتها القديمة لتصبح أداة حرب تتنازع بسببها أمريكا مع الصين ودول أخرى، ويقاوم بها الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي، إلى حد إعلان الجيش الإسرائيلي أن حركة «حماس» نجحت في اختراق هواتف جنودهم المحمولة، الأمر الذي يجعل باستطاعتها التنصت على الجيش الإسرائيلي بميكروفونات الهواتف وكاميراتها.
لكن الحدث الذي يُعد الأهم على الإطلاق من ناحية التأثير كان تسريب آلاف الرسائل من البريد الإلكتروني الخاص باللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي الأمريكي، وهو ما أضرَّ بحملة مرشحة الحزب «هيلاري كلينتون»، وأسهم، بحسب مراقبين، في فوز منافسها «دونالد ترامب».
وربطت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) بين منفذي هذه الهجمات وروسيا، زاعمةً أن الأخيرة دعمتها لحساب مرشحها المفضل.
ومن ناحية أخرى، يُنظَر لمجموعة «أنونيموس» (Anonymous) على أنها جماعة الهاكرز التي أسهمت في تغيير مفهوم الاحتجاج في العالم، وتتأرجح الآراء تجاهها ما بين مُمجدين وناقدين، لكن أحدًا لا يستطيع أن ينتزع عن أعضائها صفة الثورية رغم اختلاف الآراء بشأن تكتيكاتهم.
وبين هذا وذاك، يستعرض الموضوع المنشور في موقع (MintPress News) أنشطة «أنونيموس» المثيرة للجدل؛ لاستكشاف فلسفتهم الخاصة في الاحتجاج. حرية التعبير عن الرأي
في نوفمبر عام 2014، اندلعت تظاهرات في مدينة فيرغسون (Ferguson) بالولايات المتحدة؛ احتجاجًا على مقتل شاب أسود غير مسلح يُدعى «مايكل براون» (Michael Brown) على يد ضابط شرطة برأته المحكمة، وسُرعان ما اتسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل ولايات أخرى؛ للتنديد بعنف ضباط الشرطة المتكرر وتبرئة هيئات المُحلفين لمرتكبيه.
وردًّا على ذلك، وزَّعت جماعة «كو كلوكس كلان» (Ku Klux Klan) بيانات كراهية ضد المتظاهرين السود، وهددت بالتصدي لمظاهراتهم، بينما شنَّت جماعة «أنونيموس» حربًا حاسوبية على أعضاء الجماعة العنصرية، فأسقطوا مواقع لهم، واخترقوا حسابين لهم على «تويتر»، بل وسربوا معلومات شخصية لأعضاء مجهولي الهوية في الـ«كلان»؛ تضمنت صورهم وعناوينهم وأرقام هواتفهم وصور أبنائهم وأسمائهم.
وعندما طالت «أنونيموس» العديد من الانتقادات والاتهامات بالازدواجية؛ لأنهم يدَّعون مناصرة الحريات وفي الوقت ذاته يخترقون خصوصيات أعضاء «كو كلوكس كلان» ويصادرون حريتهم في التعبير عن آرائهم، أصدرت «أنونيموس» بيانًا قالت فيه إنها لطالما كانت «مناصرة للحريات، فما الذي يدعوها الآن للقيام بعمل يسلب حرية أحدهم في التعبير عن رأيه؟»، مؤكدًا أن «كو كلوكس كلان» جماعة إرهابية، وأيدي أعضائها مُلطخة بدماء آلاف الناس، لذا «يرى غالبية أعضاء أنونيموس أن هذه الجماعة فقدت حقها في حرية التعبير عن آرائها العنصرية المتعصبة».
ورغم أن البعض يصف أعمالًا كهذه بالتخريبية، فإن هناك من يرى أن «أنونيموس» أعادت تعريف مفهوم «الناشط» في عصر الإنترنت الحالي؛ فقد منحت هذه الجماعة، وغيرها مما يسمى بجماعات «نضال القراصنة» (Hacktivist Organizations)، الأفراد العاديين القدرة على أن يكون لهم تأثير على القضايا المخالفة للقانون التي كانت خارجة على نطاق رقابة عامة الناس.
إن القوى الكبرى لطالما كانت تخترق القانون وتخالفه، وكذلك الأخلاق في بعض الأحيان، ولم يستطع أحد إيقافها، إلى أن جاء الإنترنتفوضع في يد العامة القوة لإيقاف ذلك بالقرصنة.
ولكن في الوقت ذاته، تطرح هذه الممارسات مخاوف من المخاطر التي قد يسببها ذلك النوع الجديد من تدخل العامة، مثل الفوضى التي قد تُخلق تحت ستار النوايا الطيبة.
كيف يناضل القراصنة؟
يُعرف «نضال القراصنة» بأنه أعمال قرصنة مقبولة أخلاقيًّا لأهداف خيِّرة لكن بعض هجمات القرصنة التي تتستر خلف هذا المصطلح تثير جدلًا كبيرًا بشأن أخلاقيتها والنوايا وراءها.
ومثال ذلك الهجمات التي شنتها مجموعة «حماة السلام» (The Guardians of Peace) على شركة «سوني» (Sony) في نوفمبر 2014 احتجاجًا على عرض فيلم (The Interview)، الذي يصور منتجًا تليفزيونيًّا ومقدم برامج كُلفتهما المخابرات الأمريكية باغتيال رئيس كوريا الشمالية «كيم يونغ أون» (Kim Jong Un)، بعد أن دعاهما ليجريا معه لقاءً تليفزيونيًّا.
حصلت «حراس السلام» على مئات التيرابايت من البيانات الموجودة على خوادم حواسيب «سوني»، تتضمن نسخًا غير منتهية من أفلامها، ونسخًا من مراسلات البريد الإلكتروني بين مكاتبها، وملفات تحوي معلومات شخصية عن موظفي الشركة والأشخاص الذين تتعاقد معهم، بالإضافة إلى أسماء الحسابات وكلمات المرور المرتبطة بالأجهزة، ومعلومات محمية أخرى كسجلاتهم الصحية، كما هددت بمُهاجمة الدور السينمائية التي ستعرض الفيلم.
أثار ذلك شكوكًا بشأن النوايا الحسنة لمجموعات نضال القراصنة، ظلت قائمة حتى بعد شجب القيادة المركزية لقراصنة «أنونيموس» هذه الأفعال، خصوصًا مع البيان الصادر من وكالة الأنباء المركزية الكورية، وهي وكالة الأخبار الرسمية، بأن كوريا الشمالية تمكنت من التصدي لخروج الفيلم إلى النور، دون الخوض في أي تفاصيل توضح دورها في ما حدث، بجانب تحليلات مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) التي ربطت بين «حراس السلام» وكوريا الشمالية.
تعريف جديد للاحتجاج
في حديثه مع موقع (MintPress News)، ناقش «آرون شَل» (Aaron Shull)، الباحث في أمن الإنترنت بمركز تجديد الحوكمة الدولية (Centre of International Governance Innovation)، تطوُّر مفهوم الاحتجاج.
وأشار الرجل إلى أنه «بأخذ احتجاجات النقابات مثالًا، فمن حق العمال الاعتصام أمام المصانع أو مقار العمل، والتظاهر ضد سياسات المؤسسات التي يعملون بها، لكن إذا اخترق أحدهم موقع الشركة واستبدل شعارات المعتصمين بشعار الشركة، يعتبر هذا الفعل جريمة إلكترونية، رغم مماثلة تأثيره للاعتصام».
وأكد أن جماعة «أنونيموس» ساعدت على توسيع رقعة مفهوم الاحتجاجات لتشمل الإنترنت، لكن حتى الآن لا يمكننا تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير وما يخالف ذلك، وهذه الفجوة بين الخطين خلقت سجالًا بشأن ما هو مقبول به من وجهتي النظر القانونية والأخلاقية على حد سواء.
ولفت «شَل» إلى أن علينا أن نضحي بشيء من اثنين رغم صعوبة ذلك؛ قضية الخصوصية المتضررة بفعل اختراق أنظمة الحواسيب الشخصية، وقضية الرقابة من أجل الصالح العام، إذ إن غياب الحدود الواضحة بين هاتين القضيتين يبرز الصعوبات الموجودة في تعاملنا مع نضال القراصنة، ويجبرنا على خوض نقاشات مجتمعية بشكل أوسع بخصوص ما نؤمن بوجوب السماح به على الإنترنت.
بطولة شعبية أم فوضى
تتجلى مشكلة غياب هذه الحدود الواضحة في عملية «أنونيموس» المتعلقة بقضية اغتصاب جرت في مدينة ستوبنفيل (Steubenville) بولاية أوهايو الأمريكية، حيث اعتدى لاعب كرة قدم أمريكية من مدرسة ثانوية جنسيًّا على فتاة في السادسة عشرة من عمرها، بعد انتهاء حفل حضراه يوم الثاني عشر من أغسطس 2012.
ووفقًا لما ذكره موقع «رولينغ ستون»، فإن الضحية فقدت ذاكرتها جزئيًّا ولم تستطع استرجاع أي شيء عن الحادث، لكن صورًا ومقاطع فيديو وثَّقت ما حدث، ونشرها آخرون على مواقع «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» و«يوتيوب».
ورغم ذلك، عُرقلت التحريات في باديء الأمر، فالعديد من المرتبطين بالواقعة، مثل لاعبي الكرة أنفسهم ومدير وناظر المدرسة ومُدربي اللاعبين، يُزعم أنهم شاركوا في التستر الجماعي على الجريمة، بإدلائهم بشهادات خاطئة وإخفائهم الأدلة.
ويذكر موقع (MintPress News) أن هذه القضية لم تكن لتُحل لولا جهود «ديريك لوستتر» (Deric Lostutter)، أحد أعضاء «أنونيموس»، الذي نجح عن طريق ما أسماه «عملية العدالة» (Justice Ops) في إدانة مرتكبي الواقعة، بعد تنفيذ عمليات اختراق حصل منها على مقطع فيديو يوضح عملية الاغتصاب.
وفي مقابل جهوده في كشف ما رأى فيه ظلمًا بينًا وتسترًا على الجُناة، ما زال «لوستتر» ينتظر حتى هذه اللحظة حكمًا قد يزُجُّ به في السجن لستة عشر عامًا، بتهم الاحتيال والاعتداءات الإلكترونية، وهي مدة أطول من التي قضاها اللاعبان منفذا الاغتصاب؛ فأحدهما سُجن لعامين، والآخر أنهى فترة عقوبته بمركز إعادة تأهيل الأحداث لمدة عام، وبعدها عاد لممارسة كرة القدم الأمريكية بشكل طبيعي.
القوة الحقيقية هي الناس
هل ترغب في أن تكون عضوًا في «أنونيموس»؟ إذًا أنت منهم، حتى مع اختلاف طريقة تلقي فلسفتهم من شخص لآخر.
يقول «جاي ليدرمان» (Jay Leiderman)، المحامي المدافع عن «أنونيموس» والملقب بمحامي القراصنة المناضلين: «لم تُعِد أنونيموس تعريف ماهيَّة العمل الجماعي/الحزبي فقط، وإنما جدَّدته في هذا البلد (أمريكا)، وأخذته لمرحلة مختلفة، لعصر الثورة الرقمية.
وبينما تظل «أنونيموس» حاليًا في ما يصفه «ليدرمان» بمرحلة إعادة الهيكلة وبلا مستقبل واضح، يبقى الدور الذي لعبته في السجالات العامة، منذ خروجها إلى النور عام 2003، محط اهتمام البعض ممن يرون أن ذلك الدور أثبت أن ذوي النفوذ والسلطة ليسوا بهذه القوة، بل إن القوة الحقيقية هي قوة الناس، ولا يمكن انتزاعها منهم إلا إذا لم يستخدموها.
إن «أنونيموس» تُثبت الآن الحكمة القديمة القائلة إنك «تحتاج إلى شخص واحد فقط كي تصنع الفارق»، لكن في هذه الحالة ستحتاج إلى شخص واحد يستطيع الدخول إلى شبكة الإنترنت، ولديه القدرة على التنظيم بنجاح، حتى تصنع الفارق.
«صار لدينا الإنترنت، أعظم وسيلة لنيل حرية التعبير، أصبح لدى كلٍّ منا صوت مسموع على هذا الكوكب، سبعة ملايين صوت»، يقول ذلك «أولد هولبورن» (Old Holborn)، مُتحدثًا باسم «أنونيموس» في تصريح لصحيفة «روسيا اليوم».
يضيف «هولبورن»: «بالتأكيد ستكون هناك اختلافات بين آراء الأشخاص أو ما يقولونه لبعضهم، وسيشعرون بالضيق من ذلك، لكن علينا في النهاية أن ندرك أن لكلٍّ منا صوته، وأننا جميعًا متساوون. إذا لم يعجبك الكلام لا تستمع إليه، هذه هي حرية الاختيار وحرية التعبير.
«إن أنونيموس هي ما تريد أن تكونَ عليه».