لماذا "التصوّف" هو التيّار القادم؟

من منا لم يسمع أخيراً بجلال الدين الرومي على وسائل التواصل الاجتماعي؟ من لم يرَ صور ورسوم الدراويش الراقصين الهائمين حول أنفسهم وجداً؟ ومن لم يمر على بيت شعر للحلاج أو ابن عربي؟
شهدت السنوات الأخيرة انتعاشاً كبيراً للأدب والتراث الصوفيين، بفضل الانترنت، وبفضل البروز الثقافي والسياحي لتركيا، الحاضن الرسمي لشعلة التصوف. وهذا ما يدل على بوادر نهضة صوفية جديدة في العالمين العربي والإسلامي، بعد الانتكاسة التي تعرض لها التصوف، مع انهيار السلطنة العثمانية، وبزوغ تيارات سلفية - سنية وشيعية - استحوذت على المشهد الحالي، حتى وصلت المنطقة إلى مأزق حقيقي في تحديد العلاقة بين الدولة والدين، وفي إيجاد مصالحة بين الحداثة والدين، خصوصاً في ظل بطء وتعثر عملية الإصلاح الديني/التشريعي لمواكبة تطور الأحوال.

وفي الوقت الذي يرى فيه مراقبون اقتراب الموجة الإلحادية إلى العالم العربي، نلاحظ في الكفة الأخرى حدوث نوع من التدين الانتقائي لدى شريحة واسعة من الشباب العربي، غير مشروط بالنسق التقليدي للمذاهب، ولا بآراء فقهائها. تدينٌ يؤمّن الحاجات الروحية، وفي الوقت نفسه يراعي الحاجة لمواكبة الحداثة والعولمة، والعلمنة والحريات وحقوق الإنسان. هو تدين "التجربة الذاتية" الذي يتمتع بالكثير من أوجه التصوف، سواء صرّح باسمه أو لم يُعرّف به. لكنه لا يلتزم بالطرق الصوفية وشطحاتها، إنما يقترب أكثر للتصوف العقلاني النخبوي، إن جاز التعبير، الناتج عن التحرر من الأطر التقليدية، إذ تصبح التأملات والتجربة الشخصية ومطالعة الكتب ذات المضامين الروحية والأخلاقية هي المعلم الروحي، لا شيخ الطريقة كما كان الحال في ثقافة التصوف الشعبي القديم.

التصوف ونجاحه غرباً

تختلف تعريفات التصوف وطرقه، والمقامات التي يمر بها المريد، إلا أنها تشمل عدة سمات مشتركة في شخصية المريد وأسلوب عيشه، وطريقه إلى حقائق الوجود، أو إلى السر الأكبر، وهو الله. ومن التعاريف للأصل اللغوي للتصوف، هو ما ذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي بأنه من "المُصافاة"، وأن الصوفي من صافا الله فصوفِيَ من قبل الله. أما على صعيد السلوك، فيقول الكرخي: "التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق".
وقد ظهرت على مر التاريخ تجارب صوفية لأشخاص من مختلف الأديان، يميلون للتوحيد الخالص ويتعبدون بالتأمل والمحبة والرحمة والأخذ بباطن النصوص، إلا أن التصوف بلغ مجده وتُوّج مدارس روحية وتيارات متعددة، مع مجيء الإسلام. إذ نضجت تلك الرؤى والتجارب السابقة عندما وجدت في النص القرآني أبعاداً متعددة، محفزة للغوص والانطلاق نحو فضاءٍ من الأسرار الروحية والفكرية والفلسفية. كما استلهم التصوف من أقوال وأفعال النبي محمد، وأهمها شرحه للإحسان، وهو المقام الديني الثالث الأعلى من الإسلام والإيمان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك".
التصوف عملياً هو الوجه الباطني المكثف من أوجه الإسلام الرسمي/السني، ولذلك يطلق على التصوف بالانكليزية "الإسلام المستتر/الوجدي/الروحاني". وقد انعكست الأخلاق والمفاهيم الصوفية في الأدب أيضاً، شعراً ونثراً، بكافة لغات العالم الإسلامي، عربية وفارسية وتركية وأوردية، سواء على شكل تفاسير قرآنية أو مواعظ إشراقية وأخلاقية، أو قصص وحكايات وأخبار، أو قصائد وأغانٍ وألحان.
ويُعتبر الأدب الصوفي من أروع ما قدمته الحضارة الإسلامية، وهو النوع الأدبي المفضل لدى النسبة الأكبر من المستشرقين قديماً وحديثاً، الذين أبهرتهم كتابات المعلمين المتصوفين، لدرجة تصدّر جلال الدين الرومي قائمة الشعراء الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية، وفق عدة وسائل إعلامية غربية.
اللافت أن هؤلاء القراء الآتين من بيئة مسيحية لم يلجؤوا للأدب المسيحي، غالباً لأن المسيحية قد استنفدت فرصها واحتمالاتها ولم يعد لديها من جديد لتقوله أو لتقدمه. وهذه الظاهرة من الهجر للمؤسسة الدينية، والفهم التقليدي للدين تقترب تدريجياً للإسلام، ليس لأنه استنفد فرصه، بل لأنه لم يستعملها بعد. فالفقه الإسلامي المعاصر وإن كانت هناك أصوات تقدمية إصلاحية كثيرة فيه، إلا أن الغالب على المشهد توجه تقليدي عالق في مرحلة بينية، لم يبقَ فيها بالقرون الوسطى ولم ينسجم بعد بشكل تام مع مرحلة الحداثة، أي في مرحلة المسيحية قبيل إخضاعها للعلمنة. وهنا يظهر التصوف كبديل روحي قادر على إحداث مصالحة مع العصر، فيقوم الأفراد بدراسة الدين على طريقتهم، ويخرجون بفهمهم الخاص، الذي يعبرون عنه بطرقٍ روحانية وسلوكية شتى غير معنية بالفهم التقليدي ولا بالآراء الشائعة.

التصوف وانسجامه مع الفردية والعلمنة والحريات

يشتغل التصوف بشكل أساسي على إصلاح النفس وتهذيبها وتزكيتها، وعلى عكس المعتقدات التقليدية للتيارات السلفية السنية والشيعية الساعية لبسط نفوذها على الآخرين وإخضاعهم لـ"شرع الله" وفق تصورهم. الجهاد الأكبر للصوفي هو في مواجهة العدو الداخلي: "الهوى"، أي الإغراءات الدنيوية المادية التي تحجب قلب المتصوف عن الله. لذلك، لا يعتقد الصوفي بأن عليه أن يعيش في "دولة الله" حتى يكون مؤمناً صالحاً، إنما يقيم دولة الله في قلبه أينما حل على أرضه، ويسعى لنشر الخير والعدل بمعزل عن ظاهر الفقه والشريعة.


ويُقسّم المتصوفون القدماء الناس بين الخواص والعوام، فيُعنى بالخواص أهل الله وخاصته من عاشقيه والعارفين به، ويُعنى بالعوام عامة الناس المنشغلين بالدنيا، ممن لم يقودهم وعيهم للتعرف الحقيقي على الله، ولم يذوقوا حلاوة وصاله. إلا أن هذا التقسيم لا يستتبع أي تداعيات سلبية في التعامل، بل بلغ ببعض المتصوفين من شدة عذرهم لجهل الناس أنهم اعتبروا أن الكل على حق، في ما يذهب إليه، وأن الله يتجلى بكل مخلوقاته ويُعبد بشتى الطرق، وأن قلب الإنسان وإخلاصه وأخلاقه هي الأهم.
يركّز المتصوفون على باطن الإنسان أكثر من ظاهره، واتُّهم الكثير من الصوفية بالفسق والزندقة، من قبل التيار التقليدي المنشغل بتتبّع تفاصيل التفاصيل الفقهية حتى أضحت طقوساً بعيدة عن فحواها وهدفها الأساسي. القرآن الكريم لا يحتوي إلا على نسبة قليلة من الأحكام التشريعية، مقارنةً بجوانب الإيمان والحكمة والأخلاق. وهذا بالضبط ما يدفع الكثير من الشباب لترك المنظومة الفقهية التقليدية. ونتيجةً لكل ما ذُكر من انشغال التصوف بمصير الفرد وعذره للآخرين المخالفين، والرحمة بهم واحترام حريتهم، وعدم تبني أجندة سياسية تجمع الدين بالدولة في الغالب، يميل الكثير من المثقفين المسلمين المعاصرين إلى الإعجاب بالتصوف والتقاطع معه كأسلوب تفكير وحياة مناسب لعصرنا.

التصوف وتبني الحب والجمال والفنون والطبيعة

هناك عدة مستويات وأساليب بالخطاب القرآني، كالترغيب والترهيب والحب الإلهي. لا يبدو الخطاب السائد بالتخويف من النار ناجعاً، أو جذاباً لشريحة واسعة من الشباب والمثقفين في عصرنا. إنما تجدهم منجذبين لنظرية العشق الإلهي. ولعل الانتشار الكبير الذي حققه كتاب "قواعد العشق الأربعون" في العالم العربي، يدل على ذلك، إذ يُعبد الله لأن ذلك هو الحق والعدل، ولأن الله هو الجمال والكمال والغاية التي ليست بعدها غاية.
وبما أن هذا المستوى من الفهم والاستنارة يصعب بلوغه بسرعة، اعتبر التصوف أن الحب الأرضي هو مرحلة أولية للوصول إلى العلاقة مع المحبوب الأزلي اللامرئي. لذلك، تحتفي بالحب مدارس التصوف كافةً خصوصاً المتأخرة منها كالطريقة المولوية، أكثر من أي تيار إسلامي آخر. ويعتبر المتصوفون أن الجمال هو أبرز مظاهر الوجود تعبيراً عن الخالق، فتجد أشعارهم تعج بالمشاعر الفياضة إزاء أنماط الجمال في الطبيعة والإنسان، حتى أن الكثير من أشعار الغزل الصوفي يتراءى فيها المحبوب الإلهي بمظهر غلامٍ مليح أو امرأة حسناء.
واتخذت عبادة الله في التصوف عدة طرقٍ، منها تأمل الوجوه الصبيحة وتسبيح خالقها، بالإضافة إلى الشعر والموسيقى والرقص، وهذه الأفكار من أكثر أوجه التصوف جاذبية للجيل الجديد من الشباب الذين سئموا قائمة التحريمات التي لا تنتهي. فعلى عكس الفقهاء المتشددين، الذين حرموا معظم مباهج الحياة، أباح الفقهاء المتصوفون الموسيقى والغناء والرقص، بل اعتبروها طريقاً إلى الله ودخولاً في حضرة ملكوته وتعبيراً احتفالياً به. فكل فعلٍ هو عبادة، إذا كانت نية المريد حاضرة وقلبه هناك. بالإضافة طبعاً إلى تقاطع التصوف مع مسار الحياة الصحية في عصرنا، التي تتضمن التأمل واليوغا وتبني التوجه النباتي في النمط الغذائي، فالصوفية تميل أيضاً إلى ترك اللحوم وتعظيم الرفق بالحيوان والحفاظ على البيئة والانسجام مع الطبيعة.
إن استغلال التصوف لما يميل إليه الإنسان بفطرته من حب وجمال وفنون وطبيعة وإعطائه بعداً روحانياً تعبدياً، واستشعار الله في كل الأحوال، وقبول الناس ونشر الحب والرحمة ومحاولة إصلاح المجتمع من خلال إصلاح النفس، يشكل إغراءً كبيراً للباحث عن الروحاينة في عصرنا، مقارنةً بما يقدمه التيار المتشدد من خيارات جافة تراوح بين تحريم أصغر الأمور وصولاً إلى الحض على تفجير النفس وقتل الآخرين. وكما أن التصوف حظي بانتقاد التيار التقليدي، إلا أنه في أحيان كثيرة حظي بتقديره أيضاً، فقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال عن الصوفية "لا أعلم أقواماً أفضل منهم"، فقيل له "إنهم يسمعون (الموسيقى والغناء) ويتواجدون (يتمايلون طرباً ونشوة)، فقال: "دعوهم يفرحوا مع الله ساعة".

إرسال تعليق

أحدث أقدم

ADVERTISEMENT

ADVERTISEMENT

نموذج الاتصال